الصمت والتهميش في يوميات الكرد (الجزء الملحق بالكيان السوري)

آدمن الموقع
0
بقلم: نيركز (خاص/ مجلة Civaka me)
يعتبر موضوع الهوية من أكثر القضايا تعقيداً وحساسية في العلوم الاجتماعية والسياسية، إذ تتقاطع فيه مفاهيم الذات والجماعة، والثقافة والسلطة، والتمثيل والاغتراب. والهوية ليست مجرد تعريف ذاتي أو ارتباط ثقافي، بل هي عملية مستمرة من التفاوض، البناء، وأحياناً الصراع، داخل سياقات سياسية واجتماعية متغيرة. في هذا الإطار، تتسم هوية الكرد في الجزء الملحق بالكيان السوري بسمات خاصة من الجرح العميق، نتيجة تراكمات الصمت والتهميش الرسمي وغير الرسمي الذي يحيط بهم منذ عقود. يشكل الكرد في هذا الجزء من الكيان السوري أحد أكبر الأقليات العرقية في المنطقة، لكن حضورهم المجتمعي والسياسي بقي في الغالب هامشياً أو مقموعاً عبر سياسات متعمدة للإخفاء والتهميش. هذه السياسات أسهمت في تكوين "هوية مجروحة"، يعبر عنها في الحياة اليومية بأشكال متعددة من الصمت، الانكسار، أو في أحيان أخرى مقاومة ضمنية وصريحة. لذلك، لا يمكن فهم يومياتهم فقط من خلال النظرة السطحية للأحداث السياسية، بل يجب الغوص في البنية الاجتماعية والنفسية لهذه الهوية، وتحليل كيف يعيش الكرد تجربة التهميش على المستوى الفردي والجماعي.

لفهم عملية طمس الهوية الكردية في سياق الصمت والتهميش، لا بد لنا التركيز على الآليات التي يحاول بها الكورد الحفاظ على وجودهم الثقافي والاجتماعي رغم الضغوط السياسية. سنناقش كيف يظهر التهميش في المجالات اللغوية، السياسية، الاقتصادية، والإعلامية، بالإضافة إلى دور الصمت كآلية دفاعية ونضالية، والآثار النفسية والاجتماعية لهذه الحالة. يعتمد هذا البحث على مزيج من الإطار النظري المستمد من دراسات الهوية الثقافية والاجتماعية، نظريات التهميش، ومفاهيم الصمت السياسي، مع دعم ذلك بأمثلة وتوثيقات من الواقع الكردي في المنطقة. كما يستعرض البحث جهود المجتمع المدني الكردي في محاولة كسر هذا الصمت وإعادة بناء هوية فاعلة وقادرة على مواجهة التحديات. في الختام، يسعى هذا البحث إلى إظهار أهمية الاعتراف بالهوية الكردية المجروحة كخطوة أساسية نحو العدالة الاجتماعية والسياسية، وفتح المجال لمزيد من الدراسات التي تتناول أبعاد هذا الجرح العميق، خاصة في ظل التغيرات السياسية الراهنة التي تشهدها المنطقة.

تُعدّ دراسة الهوية من الموضوعات التي احتلت مكانة مركزية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، خاصة مع تصاعد الاهتمام بقضايا الأقليات والمجموعات المهمشة في المجتمعات متعددة الثقافات. إن الهوية ليست حالة ثابتة أو جوهرًا بيولوجيًا، بل هي عملية مستمرة من البناء الاجتماعي والثقافي، تنطوي على مفاهيم متعددة مثل الانتماء، الاعتراف، والتمثيل. وفقاً لما طرحه هول (Stuart Hall) في نظرياته، تُعتبر الهوية "مجموعة من التصورات التي تتشكل داخل علاقات القوة، وليس مجرد حقيقة مادية". فهي تتأثر بسياقات السلطة والإقصاء، وتتبدل مع الزمن والمكان. في السياق الكردي، تشكل الهوية مركز صراع مع سياسات الدولة التي تسعى إلى تهميش أو نفي هذا الوجود. أما مفهوم التهميش في العلوم الاجتماعية فيشير إلى عمليات استبعاد نظامية وغير نظامية تؤدي إلى حرمان الأفراد أو الجماعات من المشاركة الفاعلة في الحياة الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية. يشير بانطورا (Veronica Panthora) إلى أن التهميش يمتد ليشمل عدم الاعتراف بالهوية الثقافية واللغوية، ما يؤدي إلى "هوية مجروحة" تعاني من صدمة مستمرة.

الصمت السياسي هنا ليس غياب صوت فقط، بل هو ظاهرة مركبة تشمل فرض الصمت بالقوة، وكذلك اختيار الصمت كاستراتيجية نضالية أو دفاعية. يتحدث بيسكوف (Nancy Fraser) عن "الصمت الرمزي" كأداة للقمع، حيث يتم حجب سرديات معينة وإسكات أصوات الأقليات. في حالة الكرد في الجزء الملحق بالكيان السوري، يظهر الصمت كآلية مزدوجة، تحكم بها السلطات من جهة، ويتبنّاها البعض كطريقة للحفاظ على الذات من مخاطر الانكشاف من جهة أخرى.

يشكل الكرد في الجزء الملحق بالكيان السوري جزءاً هاماً من النسيج الاجتماعي السوري، حيث يمتد وجودهم هناك لقرون طويلة، مع تاريخ غني وثقافة متميزة. رغم ذلك، عانى الكرد من سياسات ممنهجة للإنكار والتهميش بدأت منذ نشأة الدولة السورية الحديثة، حين تم إقصاؤهم من الحقوق المدنية والسياسية الأساسية. في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بدأت سلسلة من الإجراءات التي استهدفت الكرد مثل مصادرة الأراضي، حظر اللغة الكردية، وحرمان العديد منهم من الجنسية السورية، مما حولهم إلى "عديمي الجنسية". هذا القمع أثر بشكل عميق على الهوية الجماعية، إذ تحول الكرد من أناس يتمتعون بوجود واضح إلى "هوية غير معترف بها" تعيش في هامش الدولة. على مدار العقود، استمرت الدولة السورية في تبني سياسات صارمة ضد أي تعبير عن الهوية الكردية، مع حملات أمنية ضد النشاطات الثقافية والسياسية، وهو ما شكل أرضية خصبة لشعور التهميش الجماعي وتجذر الصمت القسري.

تُعد اللغة من أبرز رموز الهوية الثقافية، وقد تعرضت اللغة الكردية في الجزء الملحق بالكيان السوري لقمع منهجي عبر منع تدريسها في المدارس، وحظر استخدامها في الإعلام الرسمي. هذا القمع اللغوي لم يؤثر فقط على التواصل اليومي، بل أثر على انتقال الثقافة من جيل إلى آخر، مما أدى إلى شحذ جرح الهوية. على الرغم من وجود أعداد كبيرة من الكرد في مناطق معينة، فإنهم ظلوا محرومين من التمثيل السياسي الفاعل داخل مؤسسات الدولة، وهو ما أثر على قدرتهم على الدفاع عن مصالحهم والمطالبة بحقوقهم. هذا التهميش السياسي عزز شعورهم بالغربة داخل وطنهم. غالباً ما تم استبعاد الكرد من فرص العمل في القطاعات الحكومية والرسمية، كما عانوا من صعوبات في امتلاك الأراضي والعقارات، ما أدى إلى تهميش اقتصادي مستمر وازدياد الفقر والبطالة ضمن المجتمع الكردي. كما أن غياب الإعلام الكردي الرسمي وفرض سرديات من خارج الكردية ساهم في تقزيم الهوية، كما أدى إلى فقدان السيطرة على الذاكرة التاريخية والثقافية، ما جعل الكرد يعيشون في حالة من التشظي والاغتراب عن ذواتهم.

يمثل الصمت في يوميات الكرد حالة معقدة بين القسرية والاختيار. ففي كثير من الأحيان، يُفرض عليهم الصمت من خلال القوانين الأمنية والرقابة، وفي أحيان أخرى يكون الصمت خياراً مدروساً لتجنب المواجهات المباشرة التي قد تؤدي إلى قمع أشد. يمكن اعتبار هذا الصمت شكلاً من أشكال المقاومة الرمزية، حيث يُمارس عبر الحفاظ على اللغة داخل العائلات، وإحياء التقاليد بشكل سري، ومحاولة التوثيق غير الرسمي للتاريخ والذاكرة. كذلك، يخلق الصمت مساحة للانتباه إلى الواقع، والتخطيط لخطوات نضالية مستقبلية.

التهميش المستمر والصمت المفروض يولدان مشاعر الإحباط، والاغتراب النفسي لدى الأفراد والجماعات الكردية. كثير من الشباب يشعرون بعدم الانتماء الكامل لوطنهم، أو يعيشون أزمة في الهوية بين الانتماء الكردي والهويات الوطنية الرسمية. هذا التداخل يولد في بعض الأحيان توترات داخل المجتمع نفسه، لكنه في الوقت نفسه يدفع نحو البحث عن إعادة بناء الهوية بشكل أكثر وعيًا وفاعلية، من خلال مؤسسات المجتمع المدني والأنشطة الثقافية.

برغم كل التحديات، برزت في السنوات الأخيرة جهود متزايدة من المجتمع المدني الكردي لكسر دائرة الصمت والتهميش، من خلال تأسيس جمعيات ثقافية وتعليمية، تنظيم فعاليات توعية، نشر المحتوى الكردي على منصات التواصل، والضغط السياسي من خلال شبكات الدعم المحلية والدولية. هذه الجهود تمثل خطوة نحو استعادة الهوية وتثبيت الحقوق، لكنها تواجه تحديات مستمرة تتعلق بالسياسات الرسمية، الصراعات الإقليمية، وأزمة الثقة بين مختلف المكونات.

تشكل الهوية المجروحة للكرد في الجزء الملحق بالكيان السوري نموذجاً واضحاً للتفاعلات المعقدة بين السلطة والهوية، بين الصمت والتهميش، وبين النضال والإقصاء. إن فهم هذه الهوية يتطلب تجاوز النظرة الضيقة للمصطلحات السياسية إلى تحليل أعمق للبنى الاجتماعية والثقافية والنفسية التي تشكل يوميات الكرد. تشكل الدراسة دعوة للاعتراف بجرح الهوية الكردية، والعمل على فتح مساحات من الحوار والمساواة التي من شأنها أن تساهم في بناء مستقبل أكثر عدالة، حيث لا يكون الصمت علامة على الاغتراب بل بداية للحوار والاعتراف المتبادل. كما تبرز الحاجة الماسة إلى دراسات متعمقة أخرى تستكشف الأبعاد المختلفة لهذا الجرح، وتعمل على توفير حلول عملية تضمن تمثيلاً حقيقياً للحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية للكرد في المنطقة.

إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)

#buttons=(Ok, Go it!) #days=(20)

Our website uses cookies to enhance your experience. Check Now
Ok, Go it!