بقلم شيرين حاجي
أنا ابنة عفرين، تلك المدينة التي تنام على رائحة الزيتون وتستيقظ على موسيقى الجبال، المدينة التي علّمتني منذ صغري أن الحياة تحمل في طياتها الجمال والوجع معًا، وأن الإنسان مهما ابتعد عن وطنه، يبقى مرتبطاً بجذوره كالشجرة بأرضها. رحلتي إلى ألمانيا لم تكن مجرد انتقال مكاني، بل كانت رحلة إلى أعماق نفسي، رحلة فرضت عليّ مواجهة الضوضاء الجديدة والاغتراب عن الوطن واللغة والذكريات.
في البداية، شعرت بالاغتراب المزدوج: عن المكان وعن الذات. كانت المدينة الجديدة صاخبة، تفيض بالحركة والوجوه المجهولة، وأصوات السيارات والآلات تملأ كل لحظة. وعندما كان الضجيج يشتد حولي، كنت أبحث عن ملاذ يخفف من وطأة هذه الحياة المتسارعة. وجدت هذا الملاذ في الكتاب.
الكتاب، بالنسبة إليّ، لم يكن مجرد رفيق عابر، بل كان عالمًا آخر، أكثر عمقًا وصدقًا، عالمًا يُعيد ترتيب أفكاري ويمنحني فرصة لتأمل حياتي من منظور مختلف. هناك، في صفحات الأدب الروسي، وجدت صدى نفسي وعوالم كانت مخفية في داخلي، عوالم من الصراع والتساؤل والرحمة والذنب.
الأدب الروسي، منذ لقائي الأول به، أسرني بقدرته على الغوص في أعماق النفس البشرية. لم يكن مهتماً بالسرد السطحي أو الحكاية المتكررة، بل كان يغوص في جوهر الإنسان، في صراعه الداخلي، في تناقضاته وارتباكاته، في رحلته الدائمة للبحث عن معنى الحياة. شعرت أن هذا الأدب يحترم الإنسان بما هو عليه، بكل ضعفه، وكل قوته، بكل خيبه وأمله، بكل رحمة وغضب داخلي.
حين قرأت دوستويفسكي، شعرت بأنني أمام مرآة لم أعرف أنها موجودة داخلي. صراعات الخير والشر لم تعد مجرد فكرة مجردة، بل واقع يعيش في كل نفس بشرية. كل شخصية في رواياته كانت بمثابة انعكاس لجزء من نفسي، جزء يحاول أن يجد الطريق بين الحق والخطأ، بين الضمير والغرائز، بين الحلم والخذلان. الصراع الداخلي الذي يصوره دوستويفسكي جعلني أدرك أن الرحمة ليست ضعفًا، وأن الاعتراف بالخطأ ليس هزيمة، بل بداية لفهم أعمق للذات.
تولستوي وشيخوف أضافا إلى هذه الرحلة أبعادًا أخرى. فالأدب الروسي لا يكتفي بالغوص في النفس، بل يتعاطف مع الآخر، مع معاناة البشر، مع تفاصيل حياتهم اليومية الصغيرة والكبيرة، مع فرحهم وحزنهم، مع صراعاتهم الخفية التي لا يراها إلا من يفتح قلبه. شعرت أن هذا الأدب يعلمنا كيف نرى العالم بعينين متفهمتين، كيف نحس بمعاناة الآخرين كما نحس بمعاناتنا، وكيف نتعلم الرحمة من خلال القراءة نفسها.
الأدب الروسي علمني أيضًا الصبر على فهم الحياة، على قبول التعقيد الإنساني. ففي كل صفحة، كنت أكتشف أن الإنسان كائن متناقض، قادر على أعلى درجات الخير وأعمق مستويات الشر، وأن الحقيقة لا تأتي دائمًا واضحة وسهلة، بل غالبًا تحتاج إلى بحث وتأمل وتأويل. وكلما غصت أكثر في هذا الأدب، شعرت بأن القراءة ليست مجرد عملية معرفة، بل تجربة روحية وعاطفية، رحلة إلى الداخل والخارج في آن واحد.
اليوم، أصبح الكتاب بالنسبة إليّ ليس مجرد وسيلة للهروب من صخب الحياة، بل بوابة للهدوء والوعي، رفيقًا يعلمني أن أظل على تواصل مع نفسي حتى وأنا بعيد عن وطني، بعيد عن عفرين التي علمتني أن الجمال لا يُقاس بالمكان وحده، بل بما نحمله في داخلنا من ضوء يسعى دائمًا لفهم معنى الحياة، وإعادة ترتيب نظرتنا للعالم من حولنا.
وهكذا، أجد نفسي أعود إلى عالم الأدب الروسي كلما شعرت بالضيق أو الحيرة، أعود إلى دوستويفسكي وتولستوي وشيخوف، ليس فقط لأقرأ، بل لأعيش تجربة الإنسانية بكل تناقضاتها، لأشعر بعمق التعاطف، لأفهم أن الحياة ليست مجرد أحداث، بل هي إدراك، صراع، رحمة، وتأمل مستمر. وفي النهاية، أدركت أن القراءة ليست مجرد هواية، بل هي حياة ثانية، حياة تجعل من القلب والعقل والروح متساويين في البحث عن المعنى والجمال.....SH
أنا ابنة عفرين، تلك المدينة التي تنام على رائحة الزيتون وتستيقظ على موسيقى الجبال، المدينة التي علّمتني منذ صغري أن الحياة تحمل في طياتها الجمال والوجع معًا، وأن الإنسان مهما ابتعد عن وطنه، يبقى مرتبطاً بجذوره كالشجرة بأرضها. رحلتي إلى ألمانيا لم تكن مجرد انتقال مكاني، بل كانت رحلة إلى أعماق نفسي، رحلة فرضت عليّ مواجهة الضوضاء الجديدة والاغتراب عن الوطن واللغة والذكريات.
في البداية، شعرت بالاغتراب المزدوج: عن المكان وعن الذات. كانت المدينة الجديدة صاخبة، تفيض بالحركة والوجوه المجهولة، وأصوات السيارات والآلات تملأ كل لحظة. وعندما كان الضجيج يشتد حولي، كنت أبحث عن ملاذ يخفف من وطأة هذه الحياة المتسارعة. وجدت هذا الملاذ في الكتاب.
الكتاب، بالنسبة إليّ، لم يكن مجرد رفيق عابر، بل كان عالمًا آخر، أكثر عمقًا وصدقًا، عالمًا يُعيد ترتيب أفكاري ويمنحني فرصة لتأمل حياتي من منظور مختلف. هناك، في صفحات الأدب الروسي، وجدت صدى نفسي وعوالم كانت مخفية في داخلي، عوالم من الصراع والتساؤل والرحمة والذنب.
الأدب الروسي، منذ لقائي الأول به، أسرني بقدرته على الغوص في أعماق النفس البشرية. لم يكن مهتماً بالسرد السطحي أو الحكاية المتكررة، بل كان يغوص في جوهر الإنسان، في صراعه الداخلي، في تناقضاته وارتباكاته، في رحلته الدائمة للبحث عن معنى الحياة. شعرت أن هذا الأدب يحترم الإنسان بما هو عليه، بكل ضعفه، وكل قوته، بكل خيبه وأمله، بكل رحمة وغضب داخلي.
حين قرأت دوستويفسكي، شعرت بأنني أمام مرآة لم أعرف أنها موجودة داخلي. صراعات الخير والشر لم تعد مجرد فكرة مجردة، بل واقع يعيش في كل نفس بشرية. كل شخصية في رواياته كانت بمثابة انعكاس لجزء من نفسي، جزء يحاول أن يجد الطريق بين الحق والخطأ، بين الضمير والغرائز، بين الحلم والخذلان. الصراع الداخلي الذي يصوره دوستويفسكي جعلني أدرك أن الرحمة ليست ضعفًا، وأن الاعتراف بالخطأ ليس هزيمة، بل بداية لفهم أعمق للذات.
تولستوي وشيخوف أضافا إلى هذه الرحلة أبعادًا أخرى. فالأدب الروسي لا يكتفي بالغوص في النفس، بل يتعاطف مع الآخر، مع معاناة البشر، مع تفاصيل حياتهم اليومية الصغيرة والكبيرة، مع فرحهم وحزنهم، مع صراعاتهم الخفية التي لا يراها إلا من يفتح قلبه. شعرت أن هذا الأدب يعلمنا كيف نرى العالم بعينين متفهمتين، كيف نحس بمعاناة الآخرين كما نحس بمعاناتنا، وكيف نتعلم الرحمة من خلال القراءة نفسها.
الأدب الروسي علمني أيضًا الصبر على فهم الحياة، على قبول التعقيد الإنساني. ففي كل صفحة، كنت أكتشف أن الإنسان كائن متناقض، قادر على أعلى درجات الخير وأعمق مستويات الشر، وأن الحقيقة لا تأتي دائمًا واضحة وسهلة، بل غالبًا تحتاج إلى بحث وتأمل وتأويل. وكلما غصت أكثر في هذا الأدب، شعرت بأن القراءة ليست مجرد عملية معرفة، بل تجربة روحية وعاطفية، رحلة إلى الداخل والخارج في آن واحد.
اليوم، أصبح الكتاب بالنسبة إليّ ليس مجرد وسيلة للهروب من صخب الحياة، بل بوابة للهدوء والوعي، رفيقًا يعلمني أن أظل على تواصل مع نفسي حتى وأنا بعيد عن وطني، بعيد عن عفرين التي علمتني أن الجمال لا يُقاس بالمكان وحده، بل بما نحمله في داخلنا من ضوء يسعى دائمًا لفهم معنى الحياة، وإعادة ترتيب نظرتنا للعالم من حولنا.
وهكذا، أجد نفسي أعود إلى عالم الأدب الروسي كلما شعرت بالضيق أو الحيرة، أعود إلى دوستويفسكي وتولستوي وشيخوف، ليس فقط لأقرأ، بل لأعيش تجربة الإنسانية بكل تناقضاتها، لأشعر بعمق التعاطف، لأفهم أن الحياة ليست مجرد أحداث، بل هي إدراك، صراع، رحمة، وتأمل مستمر. وفي النهاية، أدركت أن القراءة ليست مجرد هواية، بل هي حياة ثانية، حياة تجعل من القلب والعقل والروح متساويين في البحث عن المعنى والجمال.....SH