كان انسحاب نظام البعث السوري من المناطق ذات الغالبية السكانية الكردية سنة 2014 وحلول "حزب الاتحاد الديمقراطي" محله بأفكاره العقائد...
كان انسحاب نظام البعث السوري من المناطق ذات الغالبية السكانية الكردية سنة 2014 وحلول "حزب الاتحاد الديمقراطي" محله بأفكاره العقائدية، مصدر تفاؤل لشريحة واسعة من سكان الجزيرة وعفرين وكوباني، التي عانت طيلة نصف قرن من اضطهاد مزدوج؛ بوصفها مجتمعات مفارقة عرقيا للأغلبية العربية الرسمية أولا، ومن جهة كونها جزءا من الجغرافيا الريفية الطرفية المهملة عن عمد ضمن استراتيجية النظام القائمة على إبقاء تلك المناطق إلى اﻷبد حقولا لغلاله ومنابع لثرواته الباطنية، إضافة إلى كونها خزانا بشريا احتياطيا يرفد الاقتصاد بالعمالة الرخيصة وجيش الصمود والتصدي بالمجندين وصف الضباط.
بات نافلا البحث في استبدادية نظام البعث وسلوكه. ولكن من المهم في هذا السياق التذكير بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها "الفلسفة اﻷوجالانية" التي يتبناها حرفيا الحزب الحاكم الجديد ويعمل منفردا على تطبيقها في "روجافاي كردستان" أو ما بات يسميها حاليا بـ "شمال وشرق سوريا".
تقوم اﻷوجالانية على ثلاثة مبادئ رئيسية تلخص وتكثف بشكل كبير جميع اﻷفكار الواردة في مؤلفات السيد أوجالان التي وضعها في مرحلته الفكرية الثانية. أعني عقب وقوعه في أسر الاستخبارات التركية سنة 1999. وهذه المبادئ الثلاثة هي:
- الاقتصاد الكومونالي المنزه عن الربح بديلا عن نمط التجارة الرأسمالي.
- الصناعة البيئية بديلا عن الصناعوية المضرة بالحياة والبيئة.
- اﻷمة الديمقراطية بديلا عن النزعات القومية الضيقة التي لم تنتج سوى الحروب والنزاعات.
وكل ذلك بالطبع في إطار تقاطعه النظري مع فلسفة اللاسلطوية التحررية "اﻷناركية" في رفض مفهوم الدولة والعمل بدلا من ذلك على إقامة حكومة البلديات المؤسسة على التعاونيات الحرة والمبرأة من أي أثر للسلطة أو اﻹكراه أو الاستغلال، وهي في مجملها أفكار طوباوية جميلة من حق الجميع أن يحلم بها ويحاول تحقيقها. غير أن ما حدث على أرض روجافا، بعد تجربة سبع سنوات تطبيقية، كان مصداقا للتخارج اﻷزلي بين النظرية والتطبيق في كل مكان وزمان.
بعد السيطرة العسكرية على روجافا، تم توزيع كوادر الحزب كيفما اتفق على مؤسسات البنية التحتية المتخلفة التي خلفها النظام البعثي وراءه، حتى يديروها ويكونوا رقباء على سير عملها وتطبيقها لـ "فلسفة القائد" العصرية، والعمل بشكل ممنهج على تنقية العقول والشخصيات من شوائب التربية البعثية الدولتية السابقة. أي بصفة مشابهة لصفة "المندوب السامي" الاستعمارية الشهيرة في كل دائرة ومؤسسة مدنية.
بدون سابق تحضير، وجد المحاربون السابقون أنفسهم "أصحاب قرار" محملين بعصا اﻹدارة بدل بندقية الحرب. ومع الانتقال من حياة الجبال بكل ما فيها من قسوة وشظف إلى حياة الرخاء الناتجة عن توافر المال وتركزه، بدا لكوادر اﻹدارة الذاتية أنهم قد وصلوا إلى نهاية السباق، وأن من حقهم الحصول على مكافأة نهاية الخدمة، مستعينين بمن لاذ بهم من اﻷعوان المحليين (الفاسدين فكريا بحسب أوجالان) تحت شرط رئيسي هو الولاء.
تكفل اﻷعوان المحليون بتعريف سادتهم الجدد بفئات العملة وطرق التهريب ووسائل غسيل اﻷموال، ولعبوا دور الوسيط بينهم وبين تجار الحروب المحيطين بهم من كل صوب، حتى على "حدود الدم" الجنوبية بمن فيهم نظام دمشق نفسه المضطر إلى المحروقات والحبوب بشكل خاص. وشيئا فشيئا بدأت روائح الفساد تزكم اﻷنوف حتى تهامس الناس فيما بينهم بأسماء بعض هؤلاء السماسرة الطفيليين، ولكن دون أن يجرؤ أحد على مساءلتهم أو النبش في تفاصيل عملهم -الداخل في بند اﻷمن القومي- أو حتى التصريح بأسمائهم في وسائل اﻹعلام. وهكذا انزلق هؤلاء باﻹدارة الذاتية كلها إلى لعبة الفساد المقونن الذي قسم المجتمع إلى طبقتين: حاكمة تحت ظلال شجرة المال الملعونة، ومحكومة تحت قيظ الغلاء والحاجة.
اﻹدارة الذاتية اليوم ذات لون واحد ترفع علما مختلفا عن العلمين السوري والكردستاني، وتتكلم "لغة سلطوية" خاصة منفصلة شكلا ومضمونا عن لغة الشارع، تشبه الشارة التي يتعرف بها الرفاق إلى بعضهم البعض ويتعرف بها الناس عليهم.
سياسيا، اضطر حزب الاتحاد الديمقراطي، ولأسباب تعود إلى افتقاده الشرعية الدولية من الخارج والإجماع الشعبي من الداخل، إلى اتباع سياسة براغماتية مهادنة مع الجميع (باستثناء تنظيم داعش اﻹرهابي وأحزاب الحركة السياسية الكردية السورية التقليدية ممثلة بالمجلس الوطني الكردي) حتى ولو خالفت تلك السلوكيات مبادئه النظرية. ومن ذلك استعانته بالولايات المتحدة اﻷمريكية رأس حربة الرأسمال في هزيمة تنظيم داعش اﻹرهابي، ومواقفه الغامضة من ايران والنظام السوري، ونزوعه إلى اﻹكثار من المؤسسات اﻷمنية والسلطوية التي باتت تتدخل في "أدق الخلايا الشعرية للمجتمع" حسب تعبير أوجالان في بعض كتبه.
بالنسبة لمفهوم "اﻷمة الديمقراطية" المبتدع والغامض، لا أجد ضرورة للقول أنه لم يولد أصلا، بل إن الحركة نفسها قد كفت عن محاولة استيلاده - خارج الشعارات والخطابات طبعا - وحافظت جميع الشرائح والمكونات القومية والدينية، بل حتى القبلية والعشائرية في روجافا على انتماءاتها تلك، وترسخت هوياتها الفرعية أكثر من ذي قبل. وكل ما فعلته اﻹدارة الذاتية المتعثرة هو أنها حالت بقوة القانون والسلطة (المضادتين أصلا لفكر أوجالان) دون وقوع نزاعات كبرى على أساس تلك الهويات. أما فيما يتعلق بالاقتصاد المنزه عن الربح والصناعة البيئية فلم تتقدم الصناعة (ولا حتى الصناعوية) خطوة واحدة إلى اﻷمام باستثناء صناعة اﻹعلام التي انتعشت لأسباب لا يجهلها أحد. بينما تحول مفهوم الاقتصاد المنزه عن الربح إلى شكل من أشكال رأسمالية الدولة (حيث لا دولة) وساعدت حداثة التجربة وضعف الخبرة اﻹدارية على نشوء جهاز بيروقراطي هائل يعمل على عرقلة مصالح المواطنين بدل تسييرها وتيسيرها كما ساعدت حالة الطوارئ الثورية على غياب الحديث عن الميزانية من دخل وخرج.
ثروة "روجافاي كردستان" اليوم متركزة في قامشلو وثروة قامشلو متركزة في جيوب وحسابات المقربين من مواقع صنع القرار والمتعاملين مع هذه المواقع (لا أعني الموظفين بالطبع). وثروة هؤلاء المقربين المدللين متركزة في العقارات والسيارات ومكاتب السمسرة والحسابات المصرفية في الخارج، وكل ما عدا ذلك هياكل بشرية جافة تعيش بحكم "قانون القصور الذاتي" وتموت بحكم التقدم في السن أو اﻷمراض الناتجة عن نوعية الطعام أو حراقات البترول البدائية أو روائح النفايات.
لم تنشأ في روجافا برجوازية وطنية كما حدث في أماكن كثيرة من العالم. وعوضا عن ذلك طفت على السطح شريحة من أثرياء الحرب الانتهازيين. كما لم تنشأ نقابات حرة واتحادات مهنية. ولا يمكن اعتبار تلك التابعة للإدارة الذاتية أكثر من ملاحق حزبية تؤمن بأيديولوجيا معينة وتتبع حزبا معينا. كما لا يمكن كذلك اعتبار "جيش الموظفين" الذي يقبض رواتبه شهريا من خزينة اﻹدارة الذاتية سوى جيش من "جنود الاحتياط"، دفعت بهم الفاقة إلى الالتحاق بمؤسسات السلطة تحت مسمى مخادع هو التوظيف بدلا عن التجنيد.
روجافا اليوم تقريبا لا تصنع أي شيء بل إنها تقريبا تستورد كل شيء. وقد ارتضت لنفسها - كمهد للثورة الكومونالية الشرق أوسطية المنشودة - أن تنتهي سوقا لتصريف بضائع (العدو التركي) ومقبرة نموذجية مسورة تزورها في كل شهر مرة منظمات اﻹغاثة والمجتمع المدني الورعة التي تصرف كوبونات حسناتها من جيوب الممولين الفرنجة.
روجافا المجتمع الاستهلاكي والاقتصاد الريعي (حوالي ثمانين ألف برميل نفط خام يوميا) حيث تسير أفخم أنواع السيارات المستوردة على أردأ أنواع الطرق المحلية، وحيث تحل الحفر والمطبات محل الجسور، وشبكات الخنادق محل شبكات أنفاق المترو. هي المنطقة المثلى للمغامرين الباحثين عن الثروة. بشرط توافر العقل اليقظ والضمير النائم. أعني أن تكون ألسنتهم رطبة بذكر الوطن وعيونهم مغرورقة بالدموع وأيديهم على السكين والسكين على عنق الحمامة.
خلاصة القول: تجربة اﻹدارة الذاتية في روجافا على المحك. وإذا كان التحرير يتم بالعقيدة والقوة فإن اﻹدارة تتم بالعقل والحنكة. وقبل أن تفكر في تحرير أرض عليك التفكير في كيفية إدارتها. وهذا ما لا يغفل عنه أي لاعب شطرنج مبتدئ.
بقلم: إبراهيم خليل/ آسو ستوديوس كوم
التعليقات