«في عام 1607م عقد معاهدة مع « أرشيدوق فرديناند «، ملك حكومة توسكانا، إحدى الدويلات الإيطالية. وأقُرِئَت الخطبة باسمه، وصك النقود، وأنشأ جيشا...
«في عام 1607م عقد معاهدة مع « أرشيدوق فرديناند «، ملك حكومة توسكانا، إحدى الدويلات الإيطالية. وأقُرِئَت الخطبة باسمه، وصك النقود، وأنشأ جيشاً قوياً، وأعلن الاستقلال التام للإمارة الكردية عن الدولة العثمانية».
كان الأيوبيون قد منحوا ناحية القصير([1]) في سهل العمق لأمير كردي يسمى «مند»، فأسس مند إمارة عرفت في المصادر التاريخية بـ «إمارة كلس وأعزاز» ([2])، في منطقة مثلث سيروس (حلب- انطاكية – عنتاب)، أي كامل منطقة عفرين الحالية إضافة إلى نواحي حارم، وشمالي سهل العمق وأعزاز وكلس، وإمتدادات جبال الكرد شمالا داخل الحدود التركية الحالية. [المصور (1)]. ولعل خير من أرخ لهذه الإمارة، وتطرق لشؤونها هو «شرف خان البدليسي» ، في مؤلفه المشهور / شرفنامة- سنة 1596م/، فقد عاصر الإمارة، وكان قريباً من الباب العالي العثماني، ومطلعاً على أحداث الإمارة ووقائعها.
يقول شرفخان عن الأمير «مند» ونسبه: أن المنديين أبناء عمومة لحكام هكاري والعمادية (في كردستان العراق- الكاتب). فشمس الدين من أسرة حكام هكاري، وبهاء الدين من حكام العمادية، ومنتشا أو مند شاه مؤسس إمارة كلس، كانوا ثلاثة اخوة.
وعلى كل، فإن «مند» كان قد جمع في بدء ظهوره قوة من العشائر الكردية، لازم بها السلاطين الأيوبيين، فأنعم عليه أحدهم ناحية «قصير-انطاكية» وقلعتها كسنجق ليقيم بها مع أتباعه. فلحق به الأكراد القاطنون في جورم «هكذا ذكرها شرفخان، ولا شك أن شرفخان قصد بها الأكراد الذين كانوا يقطنون سهل جوم وكلس أيضاً. ثم اجتمع حوله من الأكراد الإيزدية في تلك النواحي الكثيرون، فعلا شأنه، وأخذ يتدرج في توسيع نفوذه ليمتد إلى سهل جومه ومناطق جبل الأكراد وأعزاز وكلس، وأنشأ إمارة في كلس([3])، ثم عطف عليه السلطان الأيوبي، وولاه على كافة الأكراد القاطنين في ولايتي الشام وحلب.
نازع الأمير مند في إمارته في أوائل عهده فئة من الشيوخ الإيزدية الساكنين بين حماه ومرعش، فنشبت بينهما حرب امتدت أياما، انتصر فيها «مند»، ثم أخضع هؤلاء لأمره باللطف تارة، وبالقسر تارة أخرى. فدان له جميع الأكراد في تلك الأنحاء، ولما جاءته المنية، خلفه ابنه «عرب بك»، وبعد وفاة عرب بك، خلفه ابنه الأمير جمال، وحين وفاته قام ولده أحمد بك بن الأمير جمال مقامه.
انتهت دولة الأيوبيين في حلب على يد المغول سنة 1261م([4])، باحتلال هولاكو لكافة مناطقها، مثل أعزاز ونواحي جومه وجبل الكرد وسهل العمق ومدينة حارم سنة 1259م، ولكنهم ما لبثوا أن تراجعوا إلى هضبة إيران سنة 1260م بعد معارك مع المماليك البحرية.
وكان أحمد بك في تلك الفترة حاكما على إمارة الأكراد في كلس، كما ذكرنا آنفا، ولما انتقلت كافة حكومات الأيوبيين إلى المماليك، أبى أحمد بك المندي الإذعان لهم وبقيت الإمارة محتفظة باستقلالها، يحكمها أمراء الأسرة المندية إلى حين استلام المماليك البرجية([5]) الحكم في سوريا ومصر سنة 1380 ميلادية.
وفي نهاية عهد المماليك البرجية كان «قاسم بك» من أحفاد الأمير «مند» يتولى زمام حكم الإمارة وأكرادها، وكان ذا بأس ودهاء، فأراد سلاطين المماليك عزله وإناطة حكومة الأكراد بالشيخ عزالدين من سلالة الشيوخ الإيزدية. فأذعن لأمره بعض الأكراد الإيزديين، وسار عزالدين في أتباعه، مع قسم من جند حلب المملوكي، لإقصاء قاسم بك. فنشبت بينهم معارك، أسفرت عن إخفاق الجيش المملوكي وقوات الشيخ عزالدين، وانتصر قاسم بك فيها، وحافظ بذلك على استقلال إمارته كاملا.
إمارة كلس في الفترة ما بين 1516-1607م.
حينما أزمع السلطان سليم الأول على قتال المماليك الجراكسة في الشام ومصر، عرض قاسم بك أمير كلس بالاتفاق مع خيري بك الجركسي الطاعة عليه، وحظيا بزيارة السلطان. وحينما احتل السلطان سليم تلك البلاد، حمل قاسم بك معه ابنه جان پولات – وكان يومئذ في الثانية عشرة من عمره – وسار به مع الموكب السلطاني نحو الأستانة. وفي تلك الآونة، قصد الشيخ عزالدين ديوان أمير لواء حلب العثماني أحمد بن جعفر المشهور بـ»قراجه باشا»، وتمكن بواسطة بعض المتنفذين من إغرائه وحثه على الوشاية بالأمير قاسم. فعرض قراجه باشا مساوئ قاسم بك على ملازمي السدة السلطانية، وبالغ في الوشاية به، فصدر الأمر السلطاني بقتل قاسم بك، ونفذ فيه الأمر. أما ولده «جان پولات» ([6]) فقد احْتُفِظَ به في بلاط السلطان سليم وعني بتربيته ورعايته.
بعد مقتل قاسم بك، تولى شقيقه «حبيب بك» أمر حكم أكراد المنطقة، إلا أن «قره جه باشا» دعاه إلى حلب، وقتله فيها غدرا بصلبه تحت قلعتها بتهمة أنه جمع بين تسع نسوة في آن واحد. وذكر الغزي أن ذلك كان سنة 922هـ/1516م، وبأن حبيب بك ابن عربو هذا كان من طائفة معتبرة من أمراء القصير «المنديين».
كما جاء في كتاب عبدالرزاق الحسني – اليزيديون – أنه جاء في كتاب « درر الحبب، للرضي الحنبلي» أحد رجال القرن العاشر للهجرة أن: عزالدين بن يوسف الكردي العدوي، أمير لواء حلب في آخر الدولة الجركسية وأوائل الدولة العثمانية، كان من طائفة ينتسبون إلى طائفة شيخ عدي بن مسافر رضي الله عنه، ويعرفون ببيت الشيخ مند… وفي أيامه صلب الأمير حبيب بن عربو تحت قلعة حلب، وذلك أنه كان بين الأمير عزالدين وبين أولاد عربو… عداوة بينة لأسباب دينية ودنيوية. لأن بيت عربو كانوا من أهل السنة… وبيت الشيخ مند كانوا إيزدية… /ص 18/.
بعد ذلك، أسندت، إمارة الأكراد من قبل ديوان السلطان سليم، إلى الشيخ عزالدين المذكور. وبعد وفاة الشيخ عزالدين، لم يكن بين أولاده وذوي قرابته الرجل الكفء لإدارة شؤون الحكومة فيها، أُضيفت الإمارة إلى الخواص السلطانية في إنطاكية، وأُنيطت حكومة الأكراد فيها بالملك محمد بك من سلالة حكام «حصنى كيفا» الأكراد.
بعد انتقال زمام السلطنة إلى السلطان سليمان «القانوني» 1520-1566. أخرج جان پولات بك من البلاط السلطاني، وأُدخل في تشريفات الباب العالي. ولما ظهرت منه في بعض المعارك أعمال جليلة، استحق بها عطف السلطان، واستدعى منحه حكومته التي ورثها من آبائه وأجداده. بيد أن السلطان سليمان خاف من أن يؤدي رجوعه إلى إثارة الأكراد، فأنعم عليه تولية الحكم في أحد السناجق التابعة لولاية حلب، لكن جان پولات بك لم يرض بها، فأسند حكم الإمارة إلى «حسين خان الخادم»، وفوض إليه القيام بتفحص أحوال الأكراد في إيالة كلس، وإمكانية منح حكومتها الوراثية لجان پولات بك. وبعد أن درس حسين خان الحالة، رفع إلى السلطان تقريراً جاء فيه:
((إذا لم تسند إمارة الأكراد في هذه المنطقة إلى جان پولات بك، فليس هناك من يستطيع القيام بمهام حكومتهم، وإخماد الثورات والفتن بينهم، والقضاء على أشقاتهم. ولا يأمن السكان وأبناء السبل والمارة من حلب وسائر الولايات العربية مكرهم… )) فأدى هذا التقرير إلى أن ينعم السلطان بإيالة كلس وملحقاتها على جان پولات بك، فأدار شؤونها بدراية وحزم([7]).
توفي جان پولات بك سنة 1572 عن عمر تراوح بين 90-100 سنة، وخلف عدداً كبيراً من الأولاد عرفت أسماء عشرة منهم وهم: حبيب وعمر وأحمد وعبدالله وحسين وجعفر وغضنفر وزينل وحيدر وخضر، وكلهم حملوا لقب « بك».
بعد وفاة جان پولات، تولى ولده جعفر حكم كلس بموجب وصية والده([8])، والعهد الصادر من ديوان السلطان مراد. وبعد مرور أربع سنوات على حكمه، كان مصطفى باشا السردار قد اتجه إلى منطقة شيروان في كردستان ليحتلها، فعزم جعفر بك على الالتحاق به، وسار إلى دياربكر، غير أنه لما بلغ جبل «قره جه داغ الواقع بين سيورك ودياربكر»، سقط عن حصانه ولقي حتفه.
أما حبيب بك فقد كان قد تعرض إلى الكثير من الظلم على يد أخيه جعفر مع حرمانه من الميراث بموجب وصية والده. ولكنه كان صلب العود، يثأر لنفسه، فبعث من يتظلم له في ديوان السلطنة، وحظي بمقابلة الوزير الأعظم محمد باشا. ولكي يقطع هذا الأخير دابر النزاع، منحه سنجق نابلس من أعمال الشام، إلا أن حبيب بك لم يرض بذلك، والتمس منحه إيالة بالس من أعمال حلب، وكانت تحت تصرف شقيقه حسين بك، وتحقق له ذلك. ولما بلغ حسين بك هذا الأمر، أوفد إلى الأستانة من استصدر أمراً بإلغاء الأمر السابق وبعزل حبيب بك. فلما سمع حبيب بك بذلك، قصد أعتاب السلطان مراد حاملاً معه خمسة آلاف دينار ذهب ليهديها إلى شيخ السلطان الخاص، وعرض عليه أن يتوسط لدى السلطان لإعطائه حكومة كلس. فأدى توسط الشيخ إلى أن يصدر الأمر بمنحه سنجق سلمية في إيالة حلب. غير أنه لم يرض بها، وأمام إلحاحه على الشيخ، صدر الأمر السلطاني بمنحه إيالة كلس، وأسند سنجق سلمية إلى أخيه حسين بك.
ظل حبيب بك يحكم كلس لمدة ثلاثة أعوام، إلى أن عزل وأسند حكم الإمارة إلى شقيقه حسين بك، وبقي على حكمها سنين عديدة بالاستقلال التام. كما نال منصب ميرميران «أمير الأمراء» في طرابلس الشام سنة 1592م، إضافة إلى حكومة كلس، ومنح لقب باشا، وأصبح ذا مكانة ونفوذ.
ففي بداية حكم الأمير حسين جان پولات، جاءت انكشارية دمشق بدعوة من السلطنة لقتال الثائرين المعروفين بالجلالية في شمالي حلب. وحدث بينهم وبين الحلبيين نزاع شديد، فأحضر قاضي حلب يحيى أفندي علماء حلب وأمراءها وكتبوا إلى حسين باشا– كافل كلس- يطلبون حضوره ليصلح بينهم وبين انكشارية دمشق. فحضر حسين باشا بعساكر كثيرة، وحاول إخماد الفتنة، إلا أن الانكشاريين نقضوا الاتفاق أكثر من مرة، فغادر حسين بك حلب بعساكره قائلا من غيظه: سلط الله الكلاب على البقر، /الغزي،ج3، ص211/. فسيطر الانكشاريون على حلب ومارسوا فيها الكثير من الظلم.
وفي عام 1602م عين نصوح باشا واليا على حلب، وبعد مدة وجيزة حصل بينه وبين الانكشارية واقعة عظيمة ساعده عليهم حسين باشا ففروا إلى حماة. ثم جمعوا وحشدوا هذه المرة إلى كلس وحاصروها وخربوا ما حولها من القرى كالباب وأعزاز وقرى حلب، ونهبوا الأموال ودخلوا كلس وفعلوا فيها أفاعيل جاهلية([9])…، فاضطر حسين باشا ونصوح باش إلى قتالهم وإخراجهم من الولاية.
ولما صفا الجو لنصوح باشا، أثار شائعة بأن حسين باشا والي كلس عاص على الدولة ويعمل على قتله، وكان ذلك خلافا للحقيقة، فقد كانت الدولة تراعي حسين باشا نظرا لشهامته وشجاعته. كما أن بقاءه زمنا طويلا واليا على كلس ليس بسبب عصيانه، إنما كانت الدولة ترى بعض الصعوبة في عزله، وتخشى من وقوع فتنة من عشيرة الجان پولات إذا عزل، فكانت تغض الطرف عنه وتقنع منه بالمال. ولما بلغه تهديد نصوح باشاه، أخذ في جمع عساكره والتقيا خارج كلس فهزم نصوح باشا ورجع إلى حلب. وأخذ بالاستعداد ثانية لمحاربة حسين باشا. وبينما هو كذلك، ورد إلى حلب أمر من قبل السردار «الصدر الأعظم» سنان باشا بتعيين حسين باشا كافلا للممالك الحلبية وعزل نصوح باشا. فغضب نصوح باشا غضبا شديدا وامتنع عن تسليم حلب لحسين باشا قائلا: إذا ولوا عبدا أسود فإني أطيعه إلا ابن جان پولات. وكتب إلى الدولة أن أمراء العشائر لايصلحون أن يكونوا ولاة للدولة. ولم يمض سوى أسبوع إلا وأقبل حسين باشا على حلب، فاضطر نصوح باشا إلى التحصن وراء أسوارها بعد قتال جرى بينهما. وحاصر حسين باشا حلب مدة أربعة أشهر، فتدخل بينهما القاضي شريف أفندي وأقنع نصوح باشا بالخروج من حلب بكامل هيئته بعد أجراء الصلح بينهما عام 1604م، /كامل الغزي ج3/.
في سنة 1605م، رافق حسين باشا الصدر الأعظم « جغاله زاده سنان باشا « لقتال الفرس. ولما انهزم العثمانيون فيها، غادر بعض الأمراء الأكراد المعسكر العثماني. حينها اتهم سنان باشا حسين باشا بأنه تباطأ في اللحاق به فقبض عليه في «وان»، وخنقه وقطع رأسه، وعين محله في ولاية حلب أخاه علي بك([10]).
ولما سمعت عشيرة حسين باشا بنبأ مقتله، ثارت فيهم الحمية، لاسيما ابن شقيقه علي بك الذي كان وكيله في غيبته، فأعلن مع عمه خضر «خزر» بك الثورة على الدولة العثمانية، وجمع حوله أخلاط الناس، وتغلب على حلب واستقل بها، كما قتل والي حلب الجديد المعين من قبل السلطان حسين بك في مدينة «أذنة»، بالاتفاق مع واليها جمشيد باشا الذي كان خارجا هو أيضا على السلطان. فأرسل الأمير يوسف ابن سيفا صاحب عكا إلى باب السلطنة رسالة يطلب فيها أن يكون أميرا على عسكر الشام، والتزم بإزالة ابن جان پولات في حلب، فجاءه الأمر على ما التزم. فجمع عساكره والتقى مع ابن جان پولات قرب حماة، فانكسر ابن سيفا وفر إلى دمشق. وسار ابن جان پولات إلى طرابلس واستولى عليها. وفي عام 1606م التقى ابن جان پولات مع عسكر الشام قرب دمشق، وتغلب عليهم وتقدم للاستيلاء على دمشق، فصالحه أهلها لقاء مبلغ من المال، فرحل عنهم عائدا إلى حلب. وفي طريق عودته، صالح ابن سيفا وصاهره، وبذلك وسع علي بك حدود حكمه من أذنة إلى غزة، كما استولى على كردستان([11]).
وفي عام 1607م عقد معاهدة مع « أرشيدوق فرديناند «، ملك حكومة توسكانا، إحدى الدويلات الإيطالية. وأقُرِئَت الخطبة باسمه، وصك النقود، وأنشأ جيشاً قوياً، وأعلن الاستقلال التام عن الدولة العثمانية.
كانت الحكومة العثمانية تواجه ثورة الجلاليين بالأناضول، وتمرد المعنيين في لبنان، فأرسلت الصدر الأعظم «قويوجي مراد باشا السردار» ([12]) على رأس قوة كبيرة لقتال العصاة، فأبادهم في أذنة وسيواس. ثم قصد حلب. ولما بلغ خبره مسامع ابن جان پولات، وضع أثقاله بقلعة حلب وحصن أسوار البلد وتأهب لملاقاة عسكر مراد باشا، ثم أرسل فرقة من جنوده لتحصين جبل بغراس ليمنعوا العسكر العثماني من المرور. غير أن مراد باشا لم يأت من هذا الطريق الضيق، إنما من جبل «قاز» فلم يشعر ابن جان پولات إلا وعساكر الوزير قد داهمته. ودارت الحرب يوم الثلاثاء رجب سنة 1016 هـ/ شهر تشرين الأول 1607م بين سلاسل جبال طوروس، بجوار بيلان، في موقع يقال له «سهل الروج». وكان قد انضم إلى الوزير حاكم «مرعش» ذو الفقار رستم باشا ومعه أربعون ألف كردي من أكراد دلغادر «ذو القدرية»([13])، إضافة إلى الجيش العثماني الأصلي، لمواجهة علي باشا ابن جان پولات ، الذي كان بدوره قد أعد قوة قوامها أربعون ألف جندي. ولما اشتبك الجيشان، كادت الغلبة أن تكون لعلي بك، ثم عادت الكرة عليه، وكانت النتيجة هزيمته في المعركة، وقتل من عسكره نحو 27 ألفاً. فانسحب علي بك إلى مسقط رأسه كلس أولا، ثم غادرها إلى حلب مع بعض رؤساء عسكره، وبقي فيها ليلة واحدة ثم غادرها. أما مراد باشا فإنه في ثاني يوم من الواقعة سار إلى كلس للبحث عن علي بك فضبط جميع أمواله، وتوجه منها إلى حلب واستخلص القلعة من أعوان ابن جان پولات، وحجز جميع أمواله.
أما علي بك، فقد غادر إلى ملاطيه ومنها إلى المدعو «الطويل» الخارج على الدولة في بلاد الأناضول وأراد أن يتحد معه، فلم يوافق الطويل على طلبه قائلا له: «أنا وإن كنت أسمى بالعاصي، لكني لم أصل إلى مرتبتك». ثم توجه إلى بورصة واتصل بحاكمها وعرفه بنفسه، وقال له: لقد ضجرت من العصيان، فأوصلني بالسلطان. فساعده في ذلك، ولما سأله السلطان: ما سبب عصيانك؟ قال ما أنا بعاص، إنما اجتمعت علي فرق الأشقياء وما خلصت منهم إلا أن ألقيتهم في فم جنودك وفررت إليك فرار المذنبين، فإن عفوت فأنت أهل لذلك، وإن أخذت فحكمك الأقوى. فعفا عنه السلطان أحمد الأول 1603-1617م وعينه أمير أمراء لإيالة طمشوار في يوغسلافيا الحالية([14]) ، وأودع أمه وابنه لدى السلطان. أما ابنه فقد أُدخل إلى المدرسة السلطانية الخاصة داخل السراي.
لكن يبدو أن هذا العفو لم يرق لـ «مراد باشا»، أما الغزي فيقول أنه عاد وجاهر بالعصيان، فأرسل مراد باشا من يقتل علي باشا في قلعة بلغراد، ثم أرسل رأسه إلى باب السلطنة. وكان ذلك في حدود سنة 1611م. وبذلك أسدل الستار على هذه الإمارة الكردية، وقضي على الأسرة المندية التي أسست الإمارة وحكمتها من مركزها الإداري مدينة كلس مدة تقارب أربعة قرون.
بعد مقتل علي باشا، تمكن أفراد من الأسرة الجان پولاتية النجاة من شر « قويوجي مراد باشا»، والاختفاء في جهات حلب وكلس. ثم التحق سعيد بك جان پولات سنة 1630م بالمعنيين الدروز أمراء لبنان « التي كانت لأسرته معها روابط قديمة. حيث يقال أن الأسرة المندية، اعتنقت المذهب الدرزي منذ أيامها الأولى في جهات حلب «، /موصلي، ج1 ص490/، ومن سعيد بك هذا تنحدر الأسرة الجنبلاطية الحالية في لبنان. ومن المفيد أن نذكر هنا، أنه لا تزال هناك سبع عشرة قرية درزية في منطقة حارم، يؤكد أهلها على أصلهم الكردي.
وعن عشيرة الجان پولات، جاء في «در الحبب»، أنهم كانوا في مبدأ أمرهم منحرفين عن السنة. أما مصطفى نعيم الحلبي فقد قال عنهم «بحسب رواية الشيخ كامل الغزي»: أنها من عشائر الأكراد في سنجق كلس قرب حلب، وإن حسين باشا كانت له أعمال تستحق الذكر، لأن الدولة العثمانية كانت تأمره بالسفر شرقا وغربا فيسرع الإجابة هو وعشيرته ويبلي في أعدائها بلاءً حسنا.
قلعة جان بولات:
هناك أطلال وأثار قديمة على مرتفع جبلي جنوبي غربي مدينة كلس تسمى بـ «قلعة جنبلات». وهي تقع على قمة «جبل بارسي» على ارتفاع 850م، وهي تشرف من جنوبها الشرقي على مدينة «إعزاز» بمسافة (5) كم، والمسافة بينها وبين سهل «مرج دابق» فهي نحو 15كم، ومن الجهتين الشمالية والغربية فتطل القلعة على حوض «نهر عفرين»، وتبعد عن حلب نحو 40كم، وعن مدينة «عفرين» 15كم شرقاً.
وتبلغ مساحة قمة «جبل بارسي» التي أقيمت عليها «قلعة جان بولات” نحو (4) هكتارات، تغطيها الأشجار الحراجية، أما القلعة وسورها فقد كانت معالمها الأساسية واضحة وقائمة حتى منتصف القرن العشرين وما تبقى منها حالياً أطلال القلعة، وفيها ثلاثة خزانات مياه؛ اثنان منها على الحافة الغربية للجرف الصخري، والثالث هو خزان مياه كبير ورائع يقع في أقصى الطرف الجنوبي من قمة الجبل عند نهاية الانحدار، سقفه مقنطر يعلو قليلاً عن سطح الأرض. وعلى الجانب الشرقي للخزان مقبرة قديمة ومزار «بارسي خاتون» الخاص بالإيزيديين.
——————————
[1] القصير، قلعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة انطاكية بنحو 18كم. كانت قلعة هامة في فترة الحروب الصليبية وأيام البيزنطيين. توجد حاليا بجوار موقع القلعة قرية تحمل نفس الاسم.
[2] جاء أول ذكر لكلس باسم «كالسيس» في عهد الصليبيين في عام 1099 م، وكان حاكمها أحد أولاد الملك شاه السلجوقي [ كتاب الأخبار السنية…، ص18]. وفي القرن السابع الهجري جاء ذكرها تحت اسم «غيلزة» أو «جيلزه». ويعتقد أن كلس كانت قرية أو موقعاً صغيراً تابعاً لأعزاز. وفي عام 1304 م، حينما استولى تيمورلنك على أعزاز وخربها، هاجر أهلها واستقروا في كلس. وعندما استولى الصليبيون على المنطقة كانت كلس مأهولة ومن قلاع منطقتها: أعزاز وراوندان وجمجمة وهوروز «شيخ خوروز – القرية الحالية». [القادري، تاريخ كلس، ص 18]. ولعل خير من أرخ لهذه الإمارة، وتطرق لشؤونها: شرف خان البدليسي في سنة 1596م في مؤلفه المشهور /شرفنامة، الصفحة 230/. وحول هذه الفترة راجع أيضا: تاريخ كلس للقادري، شرفنامة أمين زكي ج 1 وج2، كارل بروكلمان، ملامح من تاريخ الفلاحين…
[3] من الجدير ذكره؛ أن الأكراد، ومنذ عام 850 م إلى أواسط القرن التاسع عشر، أسسوا على أرض كردستان، والمناطق المحيطة بها، أربعين إمارة شبه مستقلة، أو كاملة الاستقلال. وكانت الأحوال السياسية في القرن الثالث عشر ملائمة بشكل أكثر لولادة الإمارات والحكومات الكردية. وذلك لأن المغول بقيادة «هولاكو» تمكنوا من ابتلاع الدولة السلجوقية خلال زحفهم الكبير نحو الشرق الأدنى. وكانت إمارة كلس إحدى تلك الإمارات الوليدة. للمزيد من المعلومات حول الإمارات الكردية في العهود الإسلامية، يمكن الرجوع إلى كتاب العلامة: أمين زكي، تاريخ الكرد وكردستان، الجزء الثاني.
[4] بعد وفاة غياث الدين سنة 1215 م خلفه العزيز غياث الدين، ثم الناصر يوسف 1236م، وظل يوسف يحكم حلب حتى غزو المغول سنة 1261 م، وقتل مع أخيه الظاهر غازي على يد هولاكو.
[5] جميع المماليك البرجية أكراد / فيليب حتى، ج2، ص273/.
[6] جان پولات، اسم كردي مؤلف من كلمتين: جان = الروح أو الجسد. پولات = فولاذ، أي صاحب الروح أو الجسد أو النفس الفولاذية.
[7] نقل أنه: (( لما سار السلطان سليمان خان «القانوني» إلى غزو إيران، مر في طريقه بولاية حلب، فدخل أحد اللصوص المجازفين حريمه الخاص، وأخرج من عربته سيفه المرصع بالذهب، دون أن يحس بذلك الحجَّاب والحرس. فلما أسفر الصبح، وشاع هذا الخبر المدهش، واتصل بمسامع رستم باشا «الوزير الأعظم» – وكان يضمر الحقد للأمير جان بولات بك – لم يكن منه إلا أن عرض على العاهل الأعظم، أن القائم بهذا الفعل الشنيع، إنما هم الأكراد التابعون للأمير جان بولات، ولا أحد غيرهم يتمكن من اقتراف أمر عظيم كهذا، فهاجت ثائرته وأصدر أمراً بإهراق دمه. غير أن جان بولات بك طلب منه في هذه الأثناء أن يمهله خمسة أيام، وإن لم يجد خلالها اللصوص، فإنه يذعن لكل عقوبة يفرضها عليه السلطان. ولم يحل اليوم الرابع حتى أحضر جان بولات اللصوص مع السيف السلطاني))، [ شرفنامه، ص233].
[8] لما كانت آثار الوهن تنذر بقرب وفاة جان پولات بك، عين ابنه جعفر ولي عهده، وعهد بحفظ الأموال والأملاك والأوقاف وشؤون أُسرته إلى ولده حسن. وأوصى أيضاً بأن يحرم ولده حبيب من ميراثه وأملاكه وحكومته، بسبب سيرته السيئة في شبابه. [ شرفنامة ص 234].
[9] ملامح من تاريخ الفلاحين…ج3 – ص24 و ص48. الغزي، ج3، ص213.
[10] جاء في حاشية شرفنامه لمترجمها محمد علي عوني: أن علي بك هو ابن أخ حسين باشا.
[11] هكذا ورد في كتاب / تاريخ الدولة العثمانية، إبراهيم حليم ، ص159/.
[12] سمي بـ «البئري» لأنه كان يلقي بخصومه وبمعارضي الدولة في الآبار أحياء، ليموتوا موتا بطيئا، وتقول بعض المصادر التاريخية أنه في جولة له في نواحي قونية، رمى بحوالي ثلاثين ألف شخص في الآبار.
[13] جاء في حاشية لمحمد دهمان في كتاب /العراك بين المماليك والعثمانيين، لإبن آجا، وفاته 1477 م، ص 23- 28/، عن الإمارة الدلغارية: أن الأسرة الدلغارية، هي من عشيرة تركمانية، شكلت حكومة كانت عاصمتها «آلبستان» وحكمت من 1340 إلى 1521 م. ومن أبرز أُمرائها «شاه سوار» أي: الملك الفارس. وسوار اسم كردي بمعنى فارس قتل سنة1472 للميلاد بيد المماليك، بعد انتصارهم عليه في عنتاب. ومن أشهر ممتلكات الإمارة الدلغارية: مرش، البستان، ملتية، عنتاب، درنده، بهنسا «شمال غربي منطقة جبل الأكراد الحالية على النهر الأسود»، أودية سهل العمق… وفي عام 1521م تحولت الإمارة الدلغارية إلى ولاية عثمانية. أما المصادر الكردية، بما فيها شرفنامة، فتقول: بأن الـ «دل غادر» هم أكراد، ولا أدل على ذلك، أن القوات الدلغادرية التي رافقت الحملة العثمانية على علي باشا كانوا من الأكراد الدلغادرية على حد قول شرفخان. كما أن معنى الاسم «دلغار أو دل خدار» Dil xedar، أي «ذو القلب الجريء»، يدل على كردية أصحاب الإمارة. أما الدلغادرية أنفسهم فقد أعادوا نسبهم إلى كسرى أنوشروان من ملوك الفرس، [د. محمد سهيل طقوش- تاريخ المماليك، ص 446]، الغزي ج3، ص143. وهذا ربما يستبعد أكثر كونهم تركمانا، ويقربهم إلى حقيقة أصولهم الكردية.
[14] المؤرخ الأرمني «كريكور تاراناغتسي» توفي سنة 1643. كتب عن حركة الجلاليين قائلا: «أنه في هذا العام 1606 عندما كنَّا في القدس، كان صاحب كلس جانبولاد ثائراً، ولكونه جلاليا، فقد ضيق على حلب والشام، حتى في القدس تضايقنا من الحصار. ثم إن مراد باشا قتل جميع الجلاليين في حلب، وهرب جانبولاد مع 300 شخص إلى كلس بصعوبة وأخذ معه أمه وطفله الذي كان جميل المنظر، وذهب إلى السلطان في القسطنطينية وقدم له الخضوع، وأعطى أمه وابنه رهينة للسلطان. واشتكى له على نصوف باشا وغيره لأنهم جعلوه جلاليا». / عاديات حلب، الكتابان 6 و7 ، ص202-203/.
——————————–
المراجع:
– سيد علي الحريري، الأخبار السنية في الحروب الصليبية، القاهرة 1899.
– القادري، تاريخ كلس، الطبعة التركية 1932، باللغة التركية.
– كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة نبيه أمين فارس و معين البعلبكي، دار العلم للملايين.
– محمد أمين زكي، الجزء الأول، تاريخ الدول والإمارات الكردية، الجزء الثاني، تاريخ الكرد وكردستان 1937. ترجمها من الكردية محمد علي عوني 1945.
– عبدالرزاق الحسيني، اليزيديون في حاضرهم وماضيهم، الطبعة السابعة 1980.
– الشيخ كامل الغزي، نهر الذهب في تاريخ حلب، ثلاثة أجزاء.
– إبراهيم بك حلمي، تاريخ الدولة العثمانية العلية 1904، الطبعة الأولى 2000 مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت – لبنان.
– محمد بن محمود الحلبي الملقب بابن آجا، العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك، مزيدة ومنقحة من قبل محمد أحمد دهمان، دار الفكر 1986.
– عاديات حلب، الكتابان الرابع والخامس 1978-1979، والسادس والسابع- 1992، معهد التراث العلمي، جامعة حلب .
– ملامح من تاريخ الفلاحين في الوطن العربي، مجموعة مؤلفين، ثلاثة أجزاء.
– د. فيليب حتي، تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، ج 1-2، دار الثقافة- بيروت لبنان.
بحث لـ د. محمد عبدو علي
المصدر: مجلة الحوار- السنة 25- العدد 72- 2018م
التعليقات